نظر حوله بتمعن يبحث عن مقعد شاغر فلم يجد، هممت بالوقوف عله يجلس مكاني ، فقد كان منظره مؤثرا حقا ،ولكنه آثر الجلوس على درجات الحافلة قرب الباب أمامي.
أشحت بوجهي عنه وشرعت أنظر من النافذة بجانبي الى الشارع وأراقب الناس. ولكنني رجعت بنظري الى ذلك العجوز، نظرت الى يديه وقد بدت غليها علامات السن والكبر ، كانتا خشنتين تملأهما تجاعيد كثيرة ، وشرايينه بارزة ، وعظامه بالية . نظرت الى وجهه فكان منظر عينيه لافتا جدا ، كانتا غائرتين تكادان لا تران ، وبياض عينيه مائل للإصفرار ، وكذلك وجهه ملأته التجاعيد ، وكان شعره ابيضا كالثلج يغطيه بقبعة قديمة الطراز ، كان يبدو بأنه قاسى وعانى الأمرين في حياته . أمسك بسيجارة وأشعلها وشرع يدخنها وينفث دخانها ببطء وكان يسعل بقوة وكأنه سيموت في أية لحظة .
لم أستطع تمالك نفسي أحسست بشعور غامر في داخلي يدفعني للبكاء ، لم أستطع التوقف عن النظر اليه ثم نظرت الى نفسي، نظرت الى يدي وفكرت انهما في غاية النعومة والقوة وكذلك كانت يداه ،وضعت يدي على وجهي لا تجاعيد فيه وهو غاية في النضارة وكذلك كان وجهه ، وقدماي قويتان تحملانني اينما أردت وكذلك كانت قدماه ، وروحي روح الشباب والمغامرة والبهجة وكذلك كانت روحه، لم أحس بقسوة الزمان بعد ولا بتعب الحياة وكذلك كان هو.
عندها تذكرت قصة هي أشبه بالخرافة أو السطورة أو العظة، سمعتها في صغري وكان هذا المشهد قاسيا مما أثارها في ذاكرتي : وهي عندما طلب أحدهم من ملك الموت أن يخبره عن موعد موته ومكانه قبل قبض روحه حتى يستعد جيدا لهذا اليوم بالعمل الصالح والاحسان للناس والمسارعة بالاستغفار، فوافق ملك الموت على ذلك ووعده باخباره عن موعد موته قبل وقت طويل .
ولكن ملك الموت أتى هذا الرجل على غفلة وعجالة ، ولم يكن فد أخبره بموعد موته كما وعد ، فلم يستعد الرجل وأخذته ملذات الدنيا وملاهيها . فاعترض الرجل وقال : قد أخلفت وعدك معي لن أسمح لك بأخذ روحي مني وهمم بالهروب.
ولكن ملك الموت استوقفه وقال له بهدوء: انحناء ظهرك وضعف ذهنك وقلة حيلتك ، ألم تشر لك بأن أجلك قد دنا ؟! بروز عظام وجهك واختفاء رونقه وانتشار التجاعيد فيه ألم تخبرك بأن وقت الرحيل قد حان ؟! شعرك الأبيض وضعف بصرك وموت أحبابك ألم يدلل أنك ميت لا محالة ؟! ألا تكفيك كل هذه الإشارات والتنبيهات؟
صمت الرجل صمتا طويلا يتكئ على عكازه وملك الموت واقف يرمقه وينتظر الاجابة ، اغرورقت عينا الرجل بالدموع وشرع يحدق في نفسه وبكى وقال بحسرة: بلى ! فقببض ملك الموت روحه.