كان يوما غير اعتيادي، فخيوط الشمس الذهبية تخترق الأجساد وتصهر ما فيها ، لتصل الى الروح وتواجهها ونسمات ثقيلة حارة كانت تلفح الوجوه فالوجوم سيطر على الأجواء وانعدام الوزن اتخذ من النفوس مُقاما له.
أحسست بهذا كله وأنا أراقب بنظري الطلاب والطالبات أثناء جلوسي على أحد المقاعد مقابل كليتي في الجامعة أتأمل هذه النفوس وهذه الوجوه.
جلست الى جانبي فتاة أظنها في مثل عمري ، وكانت الحيوية والعفوية بادية على محياها ، وكانت تألف الآخرين بسهولة ، فما لبثت أن جلست بجانبي حتى بدأت تحادثني وتسألني وتعرفني على نفسها، فتبين أن اسمها رباب وتدرس الكيمياء . وحدثتني عن تخصصها وعن الصعوبات التي واجهتها وكل ِشئ أعجبها أم لم يعجبها في الجامعة وكانت صريحة تستخدم مفردات قوية قاسية . وإن سألتها تحديدا لماذا استخدمت هذا المفرد أجابت بأنها لا تخشى شيئا ولا تخاف من ابداء رأيها فهي كما قلت صريحة.
وظلت تكرر” أنا لا أحب ( العَوَج) ” ، فهي تحب أن ترى كل شئ في مكانه وكل شخص في حيزه وكل أمر له مدبر.
وطال الحديث فحدثتني عن أيام المدرسة وكيف أنها تحب مساعدة الآخرين ، فكانت تعاونهم على فهم المواد والمسائل ، الى درجة انها عاونتهم على الغش أثناء الامتحانات، استغربت كلامها ولكني لم أبدِ أي ردة فعل . فتوقف الحديث فترة وجيزة ، الى أن مرت من أمامنا فتاة لا ترتدي الحجاب بعكسي أنا ورباب، فالتفتت رباب الي بحدة وقالت بنبرة قوية: استغفر الله العظيم ، ألا تعلم أن ارتداء الحجاب واجب ؟! ألا تستحي من نفسها ؟ ألم تجد من يربيها ؟
فأجبتها بأنها قد تكون لا تعلم فعلا أن ارتداء الحجاب واجب فبعض العائلات يرونه تقليدا لا أكثر وليس فرضا يحاسب عليه الله يوم القيامة . ومن الممكن انها تعلم ذلك ولكنها تتغاضى عن ذلك ، ليس لأنها انسانة سيئة ولكنها لم تجد من يعينها عليه ، فالمحيطون بها لا يرتدونه وهي لم تألفه في من حولها .
وأوضحت لها بأنها إن استنكرت هذا الأمر فلتذهب وتحادثها وجها لوجه ، ولا تستغيبها من وراء ظهرها ؛ فالاستغابة حرام . وقلت لها : فلتكوني عونا لها ، فالذي لا يحب ( العَوَج) يبدأ باصلاحه واعانة الآخرين عليه.
وذكرت لها قصة معلمة التربية الاسلامية في مدرستي الثانويه حيث كانت إن رأت ما لا يعجبها أفصحت عنه ولكن بأدب وأمام الشخص المعني . فكانت إن رأت فتاة لا ترتدي الحجاب أو نمصت حاجبيها وما إلى ذلك من التصرفات المستغربة المستهجنة توقفت بسيارتها وأطلت برأسها من الشباك وسألت الفتاة سؤالها الاعتيادي : شاطرة …. هل أنت مسلمة ؟! وتكون عادة ردة فعل الفتاة أنها تشهق وتستغرب السؤال وتؤكد انها طبعا مسلمة، فتوضح لها المعلمة سبب سؤالها وتبين لها ما هو الطريق الصحيح لتكون مسلمة حقاً . سكتُ برهة ، ثم نظرت الى عينيها مباشرة وقلت : رباب استغابة وغش في الامتحانات …. رباب .. هل أنت مسلمة ؟! ، دهشت من السؤال ، ثم أومأت برأسها آسفة ونظرت الى السماء وقالت:
اللهم اغفر لى وتب علي ، ثم نظرت الي وقالت : فليعني الله على ترك هذه العادة ، سكتت قليلا ثم تنهدت وأكملت : الحجاب مسؤولية ويجب أن يكون المسلم قلبا وقالبا فالخارج لا يعكس بالضرورة ما داخل الانسان . ابتسمتُ ونظرت الى ساعتي وقلت: عن إذنك عندي محاضرة الآن . أراك لاحقا.