قدماها كانتا عاجزتين ، كانت تتكئ على الجدار محاولة سند نفسها حتى تصل الى المقعد ، جلست عليه وهوت في ذاكرتها مرارة ما قاسته وعانته، جلست مشدوهة ، مصدومة ،وجهها أصفر ، عينيها شاردتين وكأنهما سافرتا الى مكان بعيد ، مكان في الذاكرة. لم تعرف ما العمل ، كان هناك بكاء ونشيج مكبوت في صدرها ، وضعت يديها على رأسها وحدقت في ارضية المستشفى ، لم تستطع البكاء ، لم تصدق.
أحمد يافع في ريعان الشباب ، طويل القامة ، أسمر ، دائم الابتسام ، يمشي بثبات وقوة ، يحب اللون البني ، يحب الطبيعة ، يغرد مع أطيارها ، ويغني مع أمطارها ، ويدندن مع نسماتها ، يحب المخاطرة والقيام بالامور غير الاعتيادية.
قبل سنة من الان ، ذهب أحمد في رحلة مع أصدقائه من الجامعة الى إحدى المناطق البعيدة عن ضجيج المدينة قرب احد الينابيع الحارة كان الكل يسبح مستمتعا. تحداهم في ذاك اليوم تسلق التلة المنحدرة القريبة منهم ذات الصخور غير الودودة و النباتات المتسلقة ثم القفز في المياه . أحمد لا يخاف شيئا ، فرغم ما ذكره اصدقاؤه من تحذيرات وما أظهروه من خوف ، كسب أحمد التحدي .
وصل اعلى التلة ونظر الى السماء ثم صرخ فيهم : إنها سهلة اصعدوا ، هز الجميع رؤوسهم بالرفض ، نظر اليهم ، اخذ نفسا عميقا ثم قفز.
دنا أبو أحمد من زوجته يغالب البكاء الذي يخالجه وقال : احتسبي يا ام احمد ، ان الله لا يضيع عنده شئ ، نظرت اليه وقد بدا الامل كخيوط دقيقة في عينيها، تنهدت ثم قالت : لا حول ولا قوة الا بالله.
منذ شهور فقد أحمد كل شئ ، خسر أهله ، ضيع مستقبله ، تفرق عنه الرفاق ، لم يعد احمد كما كان هو الآن أبعد ما يكون عن ذاته. الآن فقد بريق عينيه والسواد يحيط بمقلتيه ، شحب وجهه ، و كسد جسمه وخمل ، بردت اطرافه ، أحمد الآن مكسور ، ضعيف ، هو الآن جسد بلا روح .
نظرت أم أحمد الى النافذة المقابلة لها ، ثم اتجهت نحوها ، تراقب الشمس اثناء مغيبها ، وقالت بحسرة : إن أحمد كان يغيب شبرا شبرا تماما كما تغيب هذه الشمس ، ولكننا لم نعر انتباها له ، حتى فقدناه الى الأبد.
قال أحمد لزميله : ما هذا ؟ حدق به قليلا ثم قال : لا … لا أصدق ، أتتعاطى المخدرات ؟! أومأ زميله رأسه بالإيجاب وقال له هامسا: إن المخدرات تجعل الإنسان يعيش في عالم غير العالم ويحس بمشاعر غير كل المشاعر.
انجرف أحمد وراء الخرافة التي تدعى عالما آ خر ونسي أن هذا العالم ما هو الا عالم مظلم ، ما هو الا كابوس ولكن الانسان يعيشه باختياره ، نسي أحمد أن اختياره في هذه الحياة سيحاسب عليه في الحياة التالية ، نسي أحمد أن هذه المشاعر ما هي الا مشاعر قاتلة تدفن صاحبها حيا . نسي أحمد أن له أهلا وله من يحبه .
انجرف أحمد وجرف معه البؤس والشقاء ، غادر أحمد هذا العالم الى أبد الآبدين. نسي أحمد أن الحياة يمكن أن تنتهي في لحظة عندها لا ينفع الندم ولا قيمة للأسف ، ولا مجال للإصلاح.
وقع أبو أحمد اوراق الوفاة. الدفن غدا الساعة العاشرة صباحا.